تم إنشاء هذا الموقع باستخدام منصة ويلت ﻹنشاء المواقع، قم بإنشاء موقع الويب الخاص بك مجانًا اليوم!
ابدأ الآنمتورطة بالكتابة في عالم مقلوب كاتبة بالاحتياج لا أذكر يوما لم يكن فيه شكل حياتي يجعلني بحاجة للكتابة . في البداية ، كنت ألجأ لها طمعا في الطبطبة ، بحثا عن بعض العزاء ، أو هربا من اليأس وإلى الأمل . ثم كبرتُ ، وتطورت علاقتنا. صرت ألجأ إليها لتعينني على التأمل في فلسفة الحياة ، وفهم القدر ؛ ولتساعدني في البحث عن إجابات لتساؤلاتي حول الكون والمصير والزمن .... في المدرسة ، كانت الكتابة تمنحني الامتياز في حصص الإنشاء ؛ لكني لم آخذ الأمر بجدية وقتها . كنت أحاول فقط أن ( أحل الواجب ) بطريقة مبهرة . وحين كانت المدرسات تشجعنني بالقول أنني كاتبة " بالفطرة " ، كنت أقول بأنني ، بالأحرى ، كاتبة " بالاحتياج " . نعم ، كتبت كثيرا في سبيل ما يسميه البعض ب " التنفيس ". ولكنه ، بالنسبة لي ، كان بمثابة " التنفس ". شجاعة لا أجرؤ على اقترافها لم أكن بوارد النشر لأنني لم أعتقد بأني أملك ما يكفي من الشجاعة لأواجه عالما تعرف علي بذلك القدر من الحميمية . أنا متحفظة - بشكل عام - عن إظهار المشاعر ، بما في ذلك مشاعر الغضب . والكتابة هي العواطف كلها . هي لا شيء من دون الحب والغضب والحزن والخذلان والانكسار والضعف ...... الأمر يشبه أن تمشي عاريا أمام الناس ، وتعرّض نفسك لأحكام الآخرين على ( شكل ) جسدك والسخرية منه أيضا ، وعليك أن تتقبل تلك السخرية ، وكل الانتقادات ، فأنت من اختار بحُرّ إرادته أن يسير بقلبه مكشوفا أمام الآخرين . قررت الإقدام على مغامرة النشر على نحو مفاجئ تقريبا ، حين قالت لي إحدى الزميلات في العمل ، وكنا قد أنهينا عملنا وجلس الجميع للثرثرة ، في حين كنت في ركن بعيد ، متوحدة ، أكتب وسط ضوضاء ضحكاتهم : " هل تنشرين كتاباتك ؟ " . قلت لا ، فعلقت ببساطة : " أنت إذن تضيعين وقتك " ، وعادت للحديث مع الآخرين . لكن الكلمة ظلت تعيث فسادا في رأسي . نعم .. ما فائدة أن أكتب لنفسي فقط ؟ . ما قيمة المعاناة في الحياة ، وأية فائدة يجنيها الشخص من وراء الأوجاع إن لم يجسد ، أو يخلد - إن كان محظوظا أكثر - معاناته ووجعه ، ومشاعره وأفكاره وأحلامه ، في صورة من صور الفن والإبداع . إذا كنت تشعر بأنك دفعت ثمن شيء ما مقدما ، فماذا يمنعك من الحصول على ما دفعت الثمن من أجله ، ولو بعد حين . ليس عدلا أن أعيش حياة غير عادية ثم أسمح لنفسي بأن أنتهي شخصا عاديا ، وكأن شيئا لم يكن ! ، ومن دون حتى أن أجرؤ على المحاولة . هذا ما كنت أقوله لنفسي ، حين جاء كتابي الأول ( الحجابان ) . متورطة بالكتابة في عالم مقلوب في البداية ، أرسلت مسودة الكتاب لمؤسسة زعمت بأنها دار نشر ، وأن كتابي نال استحسانها كثيرا وتحمست لنشره . وحين عبرت عن سعادتي بالخبر ، اشترطوا علي أن أتحمل تكاليف الطباعة بنفسي . لم أتوقع بأن الأمور تجري على هذا النحو ، ولكنني وافقت . وحين تمت طباعة الكتاب فوجئت مرة أخرى وقد طلب مني استلام النسخ كاملة ، وتوزيعها - بنفسي - على المكتبات ! . كنت وقتها شابة صغيرة ، بريئة النوايا وعديمة الخبرة . بل كنت أعتقد أن التجارة يمكنها أن تلوث أي شيء إلا عالم الأدب ! . لم أعرف أحدا ممن سبقني في هذا المجال لألجأ إليه طلبا للإرشاد أو المساعدة . ولو عرفت ، لربما فضلت في كل الأحوال ، البدء بعصامية خالصة ، كما فعلت . إذن .. متورطة بألف نسخة ، قصدت - بعدها - أكبر المكتبات في البحرين لأطلب منهم عرض كتابي للبيع ، وكنت متفائلة أيضا بأنهم سيقدمون لي العون في توزيع باقي النسخ على المكتبات الصغيرة الأخرى . ظننت أني سأستقبل ، لن أقول ب " حفاوة " ، ولكن على الأقل باحترام ! ، فأنا مؤلفة . منتجة للفكر وشريكة في صناعة الأدب ، حتى وإن كانت مساهمتي متواضعة ، أو ما تزال في بدايتها . قدمت نفسي للبائع وعرفته بكتابي ، فبدا عليه عدم الارتياح . قال لي أن مديره يجب أن يطلع على الكتاب أولا ويوافق على عرضه بالمكتبة ، فانتظرت أن يسمح لي بلقاء المدير . ثم دخلت ومعي نسخة من الكتاب أطلعته عليها ، فكانت ردة فعله الأولى هي نظرة ازدراء : " غلاف رديء وطباعة سيئة . هل هذا هو الكتاب الذي تريدين أن نبيعه لك في مكتبتنا ؟! " ، قلت واثقة بنفسي : " إن قيمة الكتاب هي فيما يحمله بين دفتيه من فكر وليس بالتحديد في غلافه ، أليس كذلك ؟ " . " نعم نعم ، هذا ما يعلمونكم إياه في المدرسة " ، قال . " ولكن في واقع الحياة ، هناك معايير كثيرة تتحكم اليوم في سوق الكتب ، ومن أهمها غلاف الكتاب ، فهو أول ما سيراه ( الزبون ) ". كنت أظن ، في البداية ، بأنه يضعني في اختبار ليستشف عمق ما أملك من وعي تجاه الأدب ، ومدى أهليتي لما أنا مقدمة عليه . هل أنا جادة في رغبتي بأن أكون كاتبة ، أم أنني مجرد شابة ستجرب حظها لمرة وتعتزل ؟ . لكنه حين استرسل في الكلام ، أدركت بأن الأمر ليس اختبارا ، ولا حتى مزحة . قال : " عنوان الكتاب أيضا غير جذاب ولا يشد القارئ أو يثير فضوله " . قلت : " المهم أن يكون هو الأنسب لمضمون النص " . ضحك من إجابتي ضحكة صغيرة . ثم سأل بحزم : - وبكم تريدين أن تبيعي النسخة ؟ كان قلبي ينتفض الآن مثل من ارتكب جريمة بغير قصد . " لا أعلم " ، قلت ، فشرح لي بعملية حسابية كيف يقسمون ويطرحون ويحددون سعر النسخة ، ومبلغ الفائدة وحجم " المكاسب " لكل الأطراف ... " كم كلفتك الطباعة " ، سألني . ولما أجبت قال : " ضحكوا عليك ! . طباعة كهذه كان يجب أن تكلفك أقل من نصف ما دفعتِ ! " . ثم عاد يحسب الأرقام متنهدا ، وقال : " حتى ( تربحي ) من هذه ( الصفقة ) يجب أن تباع النسخة بكذا ، ولكني أرى أن ذلك كثير على مظهر الكتاب وأيضا ، إذا سمحت لي ، كونك كاتبة غير معروفة . أقترح أن يباع بأقل من نصف هذا الرقم ، لعلك تجدين من ( يشتري ) " . لست تاجرة . ولم يحزنني أنني اضطررت لبيع الكتاب بخسارة ، فالنشر لم يكن بالنسبة لي ( صفقة ) ولا كنت أبحث عن ( زبائن ) ، بل عن قراء . ما أمضّني هو الاكتشاف بأنني خُدعت. أهين ذكائي وتعرضت للنصب لمجرد أنني كاتبة صغيرة بدأتْ معتمدة على نفسها ، ولم تسع للحصول على دعم ، أو تزكية من أحد . ظننت أمرا كهذا سيدفع بالآخرين لاحترامي وليس استغلالي !. أما لقائي بمدير المكتبة فقد أشعرني بعظيم تفاهتي ، وخجلت من وقاحتي التي صورت لي أن بإمكاني أن أكون يوما جزءا من هذا العالم . وعلى الرغم من ذلك ، استجمعت شجاعتي وفكرت بأنني ، على الأقل ، " سأتخلص من صناديق الكتب " ، فإذا بالمدير يطلب مني ما لا يزيد عن عشر نسخ ، فقط !. " إن وجدنا عليها إقبالا يذكر ، سنطلب منك المزيد " ، قال بصوت لم أستطع إلا أن أشم فيه رائحة التهكم . لا أحد يحب أن يبيع الكتب خلال الأشهر التالية ، زرت كل المكتبات التي عرفت ، في جهاد من أجل توزيع الكتاب . لم تستقبلني بترحاب ، وتعاملني باحترام إلا مكتبة وحيدة ( هي مكتبة الكشكول - التابعة لجريدة الأيام ) . جميع المكتبات الأخرى رفضت ، بحجة أنها لا تتعامل مع المؤلف مباشرة . أما محلات البقالة الكبيرة التي قصدتها ( السوبر ماركت ) ، فأخبروني بأن لديهم " بروتوكولات معينة " لا تسمح لهم بالتعامل مع الكتب إلا من خلال " وكيل معتمد " ، كما لا يرحبون سوى بالكتب " الأكثر مبيعا " . حتى البرادات الصغيرة زرتها برجاء أن تباع كتبي إلى جانب الصحف اليومية ، ولكن أحدا لم يأخذ مني نسخة واحدة . " لا أحد يحب أن يبيع الكتب " ، اكتشفت . " حتى المكتبات " !! . انتصار صغير : لم أسمح للتجربة الأولى بأن تصيبني في مقتل . بل على العكس ربما ، كنت متحمسة أكثر لنشر إصدار جديد ، لأنني شعرت بأنني ظلمت ولم أمنح الفرصة التي أستحقها . بعد عام ، كانت روايتي الثانية ( المرأة التي أحب ) جاهزة للنشر ، وقررت أن أتعامل هذه المرة مع دار نشر في الخارج يكون لها ثقلها وسمعتها في الأوساط الأدبية ، وتتكفل هي بتوزيع الكتاب وتسويقه . كانت التكلفة عالية أيضا . ولكني على الأقل شعرت بحلاوة انتصار صغير حين دخلت يوما ، كـ ( زبون ) عادي ، تلك المكتبة الكبيرة التي تلقيت فيها الصفعة الأولى ، وعثرت يومها على كتابي الجديد يطالعني من على أحد الرفوف الأمامية . الكتابة عبء عليّ ما الذي تغير فيّ من بعد إصدارات عديدة ؟. أظن أنني أصبحت أشعر أكثر بعبء الكتابة علي. صرت أقل تعجلا ، لأنني أكثر قلقا وتخوفا من عواقب النشر في العالم الذي يعيش بالمقلوب . العالم الذي يمجد اليوم كل ما هو سطحي بزعم أن هذا هو ما تريده الجماهير ، ولا يكترث بالمواهب الجيدة التي تضيع ، أو تدفن ، أو تدفع الثمن . أنا أكتب ، إذن أنا بخير لست متشائمة ، بالرغم من كل شيء . أرى التشاؤم ضعفا لا يليق بشموخ الأدب . أؤمن بأن البقاء للأصدق . وأقول لنفسي بأني ما زال لدي الوقت الكافي لأبدأ من جديد ، في كل مرة . وما زال يمكن للكون أن يصحح - مع الوقت - أخطاءه ويعيد ترتيب أوراقه . ما دمت أصحو كل يوم ولدي فكرة ما ، أدرسها ، وأطورها ، وأكتبها .... فإن ذلك يكفيني حقا .. لأكون بألف خير .