تم إنشاء هذا الموقع باستخدام منصة ويلت ﻹنشاء المواقع، قم بإنشاء موقع الويب الخاص بك مجانًا اليوم!

ابدأ الآن

30- فتحية ناصر

حكاية فتحية ... fathiyanasser@

متورطة بالكتابة في عالم مقلوب كاتبة بالاحتياج لا أذكر يوما لم يكن فيه شكل حياتي يجعلني بحاجة للكتابة . في البداية ، كنت ألجأ لها طمعا في الطبطبة ، بحثا عن بعض العزاء ، أو هربا من اليأس وإلى الأمل . ثم كبرتُ ، وتطورت علاقتنا. صرت ألجأ إليها لتعينني على التأمل في فلسفة الحياة ، وفهم القدر ؛ ولتساعدني في البحث عن إجابات لتساؤلاتي حول الكون والمصير والزمن .... في المدرسة ، كانت الكتابة تمنحني الامتياز في حصص الإنشاء ؛ لكني لم آخذ الأمر بجدية وقتها . كنت أحاول فقط أن ( أحل الواجب ) بطريقة مبهرة . وحين كانت المدرسات تشجعنني بالقول أنني كاتبة " بالفطرة " ، كنت أقول بأنني ، بالأحرى ، كاتبة " بالاحتياج " . نعم ، كتبت كثيرا في سبيل ما يسميه البعض ب " التنفيس ". ولكنه ، بالنسبة لي ، كان بمثابة " التنفس ". شجاعة لا أجرؤ على اقترافها لم أكن بوارد النشر لأنني لم أعتقد بأني أملك ما يكفي من الشجاعة لأواجه عالما تعرف علي بذلك القدر من الحميمية . أنا متحفظة - بشكل عام - عن إظهار المشاعر ، بما في ذلك مشاعر الغضب . والكتابة هي العواطف كلها . هي لا شيء من دون الحب والغضب والحزن والخذلان والانكسار والضعف ...... الأمر يشبه أن تمشي عاريا أمام الناس ، وتعرّض نفسك لأحكام الآخرين على ( شكل ) جسدك والسخرية منه أيضا ، وعليك أن تتقبل تلك السخرية ، وكل الانتقادات ، فأنت من اختار بحُرّ إرادته أن يسير بقلبه مكشوفا أمام الآخرين . قررت الإقدام على مغامرة النشر على نحو مفاجئ تقريبا ، حين قالت لي إحدى الزميلات في العمل ، وكنا قد أنهينا عملنا وجلس الجميع للثرثرة ، في حين كنت في ركن بعيد ، متوحدة ، أكتب وسط ضوضاء ضحكاتهم : " هل تنشرين كتاباتك ؟ " . قلت لا ، فعلقت ببساطة : " أنت إذن تضيعين وقتك " ، وعادت للحديث مع الآخرين . لكن الكلمة ظلت تعيث فسادا في رأسي . نعم .. ما فائدة أن أكتب لنفسي فقط ؟ . ما قيمة المعاناة في الحياة ، وأية فائدة يجنيها الشخص من وراء الأوجاع إن لم يجسد ، أو يخلد - إن كان محظوظا أكثر - معاناته ووجعه ، ومشاعره وأفكاره وأحلامه ، في صورة من صور الفن والإبداع . إذا كنت تشعر بأنك دفعت ثمن شيء ما مقدما ، فماذا يمنعك من الحصول على ما دفعت الثمن من أجله ، ولو بعد حين . ليس عدلا أن أعيش حياة غير عادية ثم أسمح لنفسي بأن أنتهي شخصا عاديا ، وكأن شيئا لم يكن ! ، ومن دون حتى أن أجرؤ على المحاولة . هذا ما كنت أقوله لنفسي ، حين جاء كتابي الأول ( الحجابان ) . متورطة بالكتابة في عالم مقلوب في البداية ، أرسلت مسودة الكتاب لمؤسسة زعمت بأنها دار نشر ، وأن كتابي نال استحسانها كثيرا وتحمست لنشره . وحين عبرت عن سعادتي بالخبر ، اشترطوا علي أن أتحمل تكاليف الطباعة بنفسي . لم أتوقع بأن الأمور تجري على هذا النحو ، ولكنني وافقت . وحين تمت طباعة الكتاب فوجئت مرة أخرى وقد طلب مني استلام النسخ كاملة ، وتوزيعها - بنفسي - على المكتبات ! . كنت وقتها شابة صغيرة ، بريئة النوايا وعديمة الخبرة . بل كنت أعتقد أن التجارة يمكنها أن تلوث أي شيء إلا عالم الأدب ! . لم أعرف أحدا ممن سبقني في هذا المجال لألجأ إليه طلبا للإرشاد أو المساعدة . ولو عرفت ، لربما فضلت في كل الأحوال ، البدء بعصامية خالصة ، كما فعلت . إذن .. متورطة بألف نسخة ، قصدت - بعدها - أكبر المكتبات في البحرين لأطلب منهم عرض كتابي للبيع ، وكنت متفائلة أيضا بأنهم سيقدمون لي العون في توزيع باقي النسخ على المكتبات الصغيرة الأخرى . ظننت أني سأستقبل ، لن أقول ب " حفاوة " ، ولكن على الأقل باحترام ! ، فأنا مؤلفة . منتجة للفكر وشريكة في صناعة الأدب ، حتى وإن كانت مساهمتي متواضعة ، أو ما تزال في بدايتها . قدمت نفسي للبائع وعرفته بكتابي ، فبدا عليه عدم الارتياح . قال لي أن مديره يجب أن يطلع على الكتاب أولا ويوافق على عرضه بالمكتبة ، فانتظرت أن يسمح لي بلقاء المدير . ثم دخلت ومعي نسخة من الكتاب أطلعته عليها ، فكانت ردة فعله الأولى هي نظرة ازدراء : " غلاف رديء وطباعة سيئة . هل هذا هو الكتاب الذي تريدين أن نبيعه لك في مكتبتنا ؟! " ، قلت واثقة بنفسي : " إن قيمة الكتاب هي فيما يحمله بين دفتيه من فكر وليس بالتحديد في غلافه ، أليس كذلك ؟ " . " نعم نعم ، هذا ما يعلمونكم إياه في المدرسة " ، قال . " ولكن في واقع الحياة ، هناك معايير كثيرة تتحكم اليوم في سوق الكتب ، ومن أهمها غلاف الكتاب ، فهو أول ما سيراه ( الزبون ) ". كنت أظن ، في البداية ، بأنه يضعني في اختبار ليستشف عمق ما أملك من وعي تجاه الأدب ، ومدى أهليتي لما أنا مقدمة عليه . هل أنا جادة في رغبتي بأن أكون كاتبة ، أم أنني مجرد شابة ستجرب حظها لمرة وتعتزل ؟ . لكنه حين استرسل في الكلام ، أدركت بأن الأمر ليس اختبارا ، ولا حتى مزحة . قال : " عنوان الكتاب أيضا غير جذاب ولا يشد القارئ أو يثير فضوله " . قلت : " المهم أن يكون هو الأنسب لمضمون النص " . ضحك من إجابتي ضحكة صغيرة . ثم سأل بحزم : - وبكم تريدين أن تبيعي النسخة ؟ كان قلبي ينتفض الآن مثل من ارتكب جريمة بغير قصد . " لا أعلم " ، قلت ، فشرح لي بعملية حسابية كيف يقسمون ويطرحون ويحددون سعر النسخة ، ومبلغ الفائدة وحجم " المكاسب " لكل الأطراف ... " كم كلفتك الطباعة " ، سألني . ولما أجبت قال : " ضحكوا عليك ! . طباعة كهذه كان يجب أن تكلفك أقل من نصف ما دفعتِ ! " . ثم عاد يحسب الأرقام متنهدا ، وقال : " حتى ( تربحي ) من هذه ( الصفقة ) يجب أن تباع النسخة بكذا ، ولكني أرى أن ذلك كثير على مظهر الكتاب وأيضا ، إذا سمحت لي ، كونك كاتبة غير معروفة . أقترح أن يباع بأقل من نصف هذا الرقم ، لعلك تجدين من ( يشتري ) " . لست تاجرة . ولم يحزنني أنني اضطررت لبيع الكتاب بخسارة ، فالنشر لم يكن بالنسبة لي ( صفقة ) ولا كنت أبحث عن ( زبائن ) ، بل عن قراء . ما أمضّني هو الاكتشاف بأنني خُدعت. أهين ذكائي وتعرضت للنصب لمجرد أنني كاتبة صغيرة بدأتْ معتمدة على نفسها ، ولم تسع للحصول على دعم ، أو تزكية من أحد . ظننت أمرا كهذا سيدفع بالآخرين لاحترامي وليس استغلالي !. أما لقائي بمدير المكتبة فقد أشعرني بعظيم تفاهتي ، وخجلت من وقاحتي التي صورت لي أن بإمكاني أن أكون يوما جزءا من هذا العالم . وعلى الرغم من ذلك ، استجمعت شجاعتي وفكرت بأنني ، على الأقل ، " سأتخلص من صناديق الكتب " ، فإذا بالمدير يطلب مني ما لا يزيد عن عشر نسخ ، فقط !. " إن وجدنا عليها إقبالا يذكر ، سنطلب منك المزيد " ، قال بصوت لم أستطع إلا أن أشم فيه رائحة التهكم . لا أحد يحب أن يبيع الكتب خلال الأشهر التالية ، زرت كل المكتبات التي عرفت ، في جهاد من أجل توزيع الكتاب . لم تستقبلني بترحاب ، وتعاملني باحترام إلا مكتبة وحيدة ( هي مكتبة الكشكول - التابعة لجريدة الأيام ) . جميع المكتبات الأخرى رفضت ، بحجة أنها لا تتعامل مع المؤلف مباشرة . أما محلات البقالة الكبيرة التي قصدتها ( السوبر ماركت ) ، فأخبروني بأن لديهم " بروتوكولات معينة " لا تسمح لهم بالتعامل مع الكتب إلا من خلال " وكيل معتمد " ، كما لا يرحبون سوى بالكتب " الأكثر مبيعا " . حتى البرادات الصغيرة زرتها برجاء أن تباع كتبي إلى جانب الصحف اليومية ، ولكن أحدا لم يأخذ مني نسخة واحدة . " لا أحد يحب أن يبيع الكتب " ، اكتشفت . " حتى المكتبات " !! . انتصار صغير : لم أسمح للتجربة الأولى بأن تصيبني في مقتل . بل على العكس ربما ، كنت متحمسة أكثر لنشر إصدار جديد ، لأنني شعرت بأنني ظلمت ولم أمنح الفرصة التي أستحقها . بعد عام ، كانت روايتي الثانية ( المرأة التي أحب ) جاهزة للنشر ، وقررت أن أتعامل هذه المرة مع دار نشر في الخارج يكون لها ثقلها وسمعتها في الأوساط الأدبية ، وتتكفل هي بتوزيع الكتاب وتسويقه . كانت التكلفة عالية أيضا . ولكني على الأقل شعرت بحلاوة انتصار صغير حين دخلت يوما ، كـ ( زبون ) عادي ، تلك المكتبة الكبيرة التي تلقيت فيها الصفعة الأولى ، وعثرت يومها على كتابي الجديد يطالعني من على أحد الرفوف الأمامية . الكتابة عبء عليّ ما الذي تغير فيّ من بعد إصدارات عديدة ؟. أظن أنني أصبحت أشعر أكثر بعبء الكتابة علي. صرت أقل تعجلا ، لأنني أكثر قلقا وتخوفا من عواقب النشر في العالم الذي يعيش بالمقلوب . العالم الذي يمجد اليوم كل ما هو سطحي بزعم أن هذا هو ما تريده الجماهير ، ولا يكترث بالمواهب الجيدة التي تضيع ، أو تدفن ، أو تدفع الثمن . أنا أكتب ، إذن أنا بخير لست متشائمة ، بالرغم من كل شيء . أرى التشاؤم ضعفا لا يليق بشموخ الأدب . أؤمن بأن البقاء للأصدق . وأقول لنفسي بأني ما زال لدي الوقت الكافي لأبدأ من جديد ، في كل مرة . وما زال يمكن للكون أن يصحح - مع الوقت - أخطاءه ويعيد ترتيب أوراقه . ما دمت أصحو كل يوم ولدي فكرة ما ، أدرسها ، وأطورها ، وأكتبها .... فإن ذلك يكفيني حقا .. لأكون بألف خير .